الأحد، 18 يونيو 2023

بإختصار لازم تكمن سنة الله في نصرة عباده واقامة دولتهم لا بشيئ غير الاتي

قانون ثبات سنة الله في الخلق

قلت المدون وبإختصار لازم تكمن سنة

الله في نصرة عباده واقامة دولتهم لا بشيئ غير الاتي

1.الدعوة الصحيحة والتامة الي الله بكل سبيل يدعي به اليه جل علا ومن هذه السُبل الدعوة الي الله بالحكمة والموعظة الحسنة

2.المجادلة بين المسلمين والظالمين أيضا بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن

3.الدعوة بالقول اللين {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشي}

4.الدعوة الي الله ليلا ونهارا {قال نوح رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا...}

5.الدعوة الي الله في السر وبالعلانية  بتوحيد الله وطاعته والاستغفار والتبشير بوعد الله الحسن ان هم اجابوا لذلك { يرسل السماء عليكم مدرارا...الايات من سورة نوح}

6.الاستعداد لتلقي الأذي من الظالمين وسوف يكون الأذي في مرحلة متقدمة من محاولات الداعين الي الله

7.عند وقوع شدة الأذي يحين موعد مفارقة المؤمنين للظالمين ووجب عليهم الرحيل عنهم بالخروج من بينهم

8.حين يتقرر الخروج لا يلتفت من المؤمنين أحد  وراءه ووجوب المضاء الي ما يفتحه الله لهم من بقعة من الارض يجدون التيسير للهجرة فيها وعدم الاذي من أهلها

9. يتولي الجبار الانتقام من الظالمين  فيبطش بهم ويخفي وجودهم

10.ليعود المؤمنين وقد يسر الله لهم دولتهم يستخلفهم فيها لينظر ماذا يعملون؟

11. لا سبيل غير ذلك لإقامة دولة المسلمين والتمكين لهم بعزة وتمكن

12. لا يصلح ما يسمونه بالمظاهرات او المقاتلة او المحاربة  او المجاهدة المسلحة الا مجاهدة الدعوة بالكلمة التي امر الله انبياءه كلهم بها

قلت المدون الادلة علي ما قد ذكرناه هنا

 

وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (سورة فاطر الآية 43 )

سبق تناول مفهوم (سنن الله في الخلق) تناولاً عاماً مجملاً ، وظهرت العلاقة ما بين دراسة هذه السنن وتسخير الكون المحيط بنا ، وتأكد : أن المسلمين من غير فهم هذه السنن ، ومعرفة شروطها ، وأحكامها ، لا نستطيع أن نسخرها على الوجه الصحيح .. وقد آن الأوان لكي نفصل الحديث في ماهية السنن ، فما الذي نعنيه بمصطلح (سنة الله في الخلق)؟

 

* بالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن لفظ (السنة) يعني الطريقة أو القاعدة .. وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده فهو الذي سنه.

السنة في الاصطلاح الشرعي: (كل ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية، وهي مصدر تؤخذ عنه الشرائع والعقائد متى ثبت إسنادها وصحت نسبتها).

* وأما ( سنة الله في الخلق : فإنها تعني حكم الله في خليقته ، وهذا ما بيناه في الفصول السابقة ، من أن الله عز وجل قد سن لكل أمر في هذا الوجود حكماً (أو قانوناً) لا يحيد عنه .. فالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، هي إذن : ( مجموعة القوانين التي سنها الله عز وجل لهذا الوجود ، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً ، على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها ) ، ويوضح هذا التعريف اختلاف معنى سنة الله في الخلق عن معنى السنة في اللغة ، وفي الاصطلاح الشرعي كذلك .. على الرغم من المعنى الجامع لها.
وتتصف السنن الربانية بثلاث خصائص مميزة هي : الشمولية ، والثبات ، والاطراد ، وهذه الخصائص تنطبق على جميع السنن التي بثها الله في هذا الوجود .. فما هي طبيعة هذه الخصائص؟ هذا ما سوف نفصل فيه فيما يلي:
1- الشمولية
.. عندما يعيش الإنسان في هذا الوجود بقلب سليم ، وعقل متفتح ، وبصيرة نافذة ، فإنه يجد في حياته على هذه الشاكلة سعادة غامرة ، لا يعرف حلاوتها البشر ، الذين عطلوا حواسهم عن رؤية ما في الكون من تكامل يدل على الإعجاز في الخلق ، كما يدل على قدرة الخالق !
وإن من يتأمل هذه الخلائق المبثوثة في الكون من حوله ، يجد أنها جميعاً ترتبط بمنهج موحد من السنن الربانية ، التي تقرب بعضها إلى بعض ، فتجعل منها عالماً أنيساً متكاملاً ، يسوده الانسجام والاستقرار والتوازن .. والأدلة على هذه الحقيقة الباهرة لا يكاد يحصرها عد ..

دليل سنة نصر الله لعباده المؤمنين الثابت علي مر الزمان

1.نوح عليه السلام ثم كل الرسل من بعده لم يحيدوا عن هذه السنة ولن يقوم لأي زاعم من الزاعمين نصرة دين الله إلا بهذه السنة :ففي سورة  الأعراف:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) (الأعراف)

1.مرحلة الرسالة لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ

2. ثم مرحلة الدعوة فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

3. محلة الترهيب من عناصر الدعوة ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

4.مرحلة الاحتكاك بالناس في المحيط المكلف فيه بالدعوة وتوقع 5. رد فعل القوم ( قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

6. رد فعل النبي (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

7.فَكَذَّبُوهُ  هو سلوك القوم المتوقع في عدائهم لنبي الله نوح{وكل نبي يبعث في قومه}

8.دائرة عمل الله التي يغضب إذا داخله فيها أحد من البشر كائنا من يكون {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ }

9. تابع دائرة عمل الله تعالي في الانتقام من القوم المكذبين(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ )

10.هذه سنة الله في تمكين عباده المؤمنين وهي سنة لا تقبل التبديل ولا تقبل التحويل(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (سورة فاطر الآية 43 ))

 

 

وفي سورة   يونس
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) (يونس)


وفي سورة  هود
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) (هود)وفي سورة   الأنبياء
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) (الأنبياء)وفي سورة   المؤمنون
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) (المؤمنون)وفي سورة   الفرقان
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) (الفرقان)وفي سورة   الشعراء
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) (الشعراء)وفي سورة   العنكبوت
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) (العنكبوت)وفي سورة   الصافات
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) (الصافات)وفي سورة   الذاريات
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) (الذاريات)وفي سورة   القمر
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) (القمر)
وفي سورة  نوح
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) (نوح)

------------

المقصود بالسُّنَّة هنا: القانون العام الذي يحكم أفعال البشر وسلوكهم ، ويتسم هذا القانون بالثبات والاطراد، ويدل على اطراده أن الله تعالى قصّ علينا قصص الأمم السابقة وما حلّ بها لنتعظ ونعتبر، قال تعالى : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (سورة فاطر الآية 43 ).

قال العلامة السعدي (المتوفى: 1376هـ) في تفسيرها : فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان الله لعباده ، أنهم – أي أهل الباطل - كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد الله كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء، ما فعل بأولئك. انتهى كلامه رحمه الله.

ويتصف هذا القانون أيضا بالعموم أي يسري حكمه على الجميع دون محاباة ولا تمييز ، قال تعالى : {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } (سورة النساء من الآية 124), والمعنى: لَيْسَ الأمر بالأماني التي هي أحاديث النفس المجردة عن العمل ، ولكن من يعمل سوءاً يلق جزاءه ؛ لأن الجزاء - بحسب سنّة الله تعالى- أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه . وبناء عليه فمجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها .

ومن السنن الإلهية في الناس قوله تعالى {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18] ومعناها: مَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد، لا بنصرته ولا بالشفاعة له، فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله، لأن الأمور كلها بيده ، وهذا النص جزء من آية كريمة تسمى آية سجود المخلوقات ، وقد أكثر ابن القيم رحمه الله من الاستشهاد بهذا النص على عقوبة وآثار الذنوب والمعاصي في أكثر من موضع من كتابه الداء والدواء ، المسمى أيضا الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ،وقد جاءت هذه المواضع متناثرة ، وهَا أَنَا ذَا أجمعها لإخواني القراء مع بعض الزيادات والتوضيحات ، ولكن قبل أَنْ أسوقها أذكرك أخي القارئ بأَنَّ من كبائر الذنوب : الكذب والافتراء والبهتان و الكبر و الظلم و الفساد وقتل النفس بغير حق . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين البهيمة ووليدها ، ورأى أطفالا يلعبون بعصفور صغير و أُمُّهُ تحاول أنْ تأخذه منهم فقال النبي للصبية: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا عليها ولدها" !!.

والآن إِلى كلام ابن القيم رحمه الله :

- من آثار الذنوب والمعاصي: أَنَّهُ ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها،.وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب.

- ومنها: أَنَّ كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل. فالعلو في الأرض بالفساد، ميراث عن قوم فرعون. والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود. فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.

- ومنها: أَنَّ المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لَعَصَمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} ، وفي الحديث: " وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي". وإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

- ومنها : أَنْ يرفع الله عز وجل مهابته ـ أي العاصي ـ من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [سورة الحج: 18].

- ومنها: أَنَّ غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم. فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يلعنه من لا ذنب له. وكان أبو هريرة يقول: إن الْحُبَارَى لتموت في وكرها من ظلم الظالم. والْحُبَارَى نوع من الطيور ،قال ذلك حين سمع رجلاَ يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. وقالها مرة أخرى حين سمع آخر يقول: كل شاة معلقة برجلها.

- ومنها: أَنَّ المعصية تورث الذل ولابد؛ لذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهَملَجَتْ بهم البراذين، إنَّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى اللهُ إلا أن يُذِلَّ من عصاه. ومعنى الهملجة: أي حسن سير الدابة في سرعة وبخترة. والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب.

- ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية. وقد قال مالك للشافعي لمّا اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية. ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحلّ، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مَهْلكٍ يسقط فيه، وهو لا يبصره ، كأعمى خرجِ بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب. فيا عزّةَ السلامة، ويا سرعةَ العطب! ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ بحسب قوتها وتزايدها !!.

- ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيًّأ لأن يكون من العِلْية. فإنّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه ، وجعل العزّة لهؤلاء ، والذلّة والصغار لهؤلاء. فكلّما عمل العبد معصيةً نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين. وكلّما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلَين. وها هنا أمر وهو أنّ العبد قد ينزل نزولًا بعيدًا أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعودُه ألفَ درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح : "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب".

فأيُّ صعود يوازي هذه النَّزْلَةَ ؟.انتهى كلام ابن القيم ملخصا ومرتبا ، اللهم ياعزيز لا تذلنا بين خلقك ولا بين يديك ، آمين.

 

 

-----------------------------





-------------------------

2.دليل من علم الفيزياء:
.. فمن عالم الذرة المتناهية في الصغر ، إلى عالم المجرة المتناهية في الكبر ، نجد أن السنن التي تحكم هنا، هي نفسها التي تحكم هناك ، فلا فرق ما بين صغير وكبير أمام السنن الربانية الشاملة ، التي تحكم الكون كله ..
وليس هذا الكلام خيالاً ، ولا شطحات فيما وراء المعقول ، كما يحلو لبعض الناس أن يصفوا كل حقيقة كونية تثبت وجود خالق لهذا الوجود ، فالعلم نفسه يصوغ الحقائق صياغة علمية دقيقة ، بالمعادلات والأرقام التي لا يسع أي عاقل إلا الوقوف عندها خاشعاً لله ، لما تدل عليه من عظمة في الخلق وإتقان في الصنعة .. فمن المعلوم أن التفاعلات أو الظواهر التي تسود الكون أربع ، هي : الكهربائية ، والمغناطيسية ، والنووية ، والجاذبية .. وقد ظل العلماء زمناً طويلاً يظنون أن هذه الظواهر متميزة بعضها عن بعض ، وأنه لا علاقة بينها البتة .. وظل الأمر كذلك حتى عهد قريب ، حين أثبتت النظريات الجديدة ، والتجارب التي تمت بناء عليها ، أن هذه الظواهر التي تبدو متباينة ، يمكن توحيدها أو إرجاعها إلى ظاهرة واحدة ، وقد بدأت مسيرة التوحيد هذه مع الإنجليزي اسحق نيوتن ( 1642 - 1727م ) ، الذي وحد بين ظاهرتي الجاذبية الأرضية ، والجاذبية بين الأجرام السماوية ، وصاغ قانون الجاذبية العام ، ثم تابعت عملية التوحيد مسيرتها مع الاسكوتلاندي جيمس ماكسويل ( 1831 - 1879م ) الذي وحد بين ظاهرتي الكهرباء والمغناطيس ، في ظاهرة واحدة ، هي الحقل الكهرومغناطيسي ، وصاغ لها المعادلات الشهيرة التي مازالت تحمل اسمه .. وفي بداية القرن الحالي جرى تعميم نظرية ماكسويل في نظرية الإلكتروديناميك الكوانتية ( 1927م ) ، ومؤخراً في سبعينيات هذا القرن نجح العلماء ومنهم الفيزيائي الباكستاني ( عبد السلام ) في التوحيد ما بين التفاعلات الكهرومغناطيسية ، والتفاعلات النووية الضعيفة ، في نظرية واحدة أطلق عليها اسم ( كهروضعيفة ) وعلى أثر اكتشاف هذه النظرية ازداد أمل العلماء في إمكانية جمع ظاهرة التفاعلات النووية القوية إلى الشكلين المذكورين اللذين تم توحيدهما ، وأطلق اسم ( نظرية التوحيد الكبير ) على النظرية المرشحة للقيام بذلك ، ويفترض في هذه النظرية أن تعبر عن نوع من التناظر في البنية الهندسية للمادة في أعمق أعماقها .. وعندما يكون هذا التناظر قائماً فهو يحتم وجود ظاهرة واحدة ، أو حقل كهرنووي واحد ، يجمع التفاعلات الثلاثة في تفاعل واحد .. ) ويبدو واضحاً من خلال هذه الوقائع التي انتهى العلماء إليها حتى الآن أن العالم المادي يشكل معاً وحدة متكاملة ، ويخضع لمنهج واحد ، وتحكمه سنن شاملة يكمل بعضها بعضاً .
دليل من علم الأجنة:
لقد كان دليلنا السابق من عالم المادة ، التي نصفها عادة بالجمود .. ونختار الآن مثالاً آخر من عالم الحياة، عالم المخلوقات الحية ، التي تتصف بالنشاط ، والحركة ، والتكاثر ، والنمو ، والتبدل المستمر 
ونورد مثالنا من علم الأجنة ، الذي أصبحنا نعرف عنه الكثير من المعلومات والحقائق اليقينية .. ويكفينا دليلاً من علم الأجنة أن نتتبع مراحل تخلقها ونموها لنرى النظام الذي تسير وفقه ، سواء أكانت هذه الأجنة أجنة بشر ، أو أجنة حيوانات مثل السمك والضفدع والطير والفيل .
إن تكوين هذه الأجنة على اختلافها يبدأ من التقاء نطفة الذكر ببيضة الأنثى ، ومن خلال عرس اللقاء هذا تتشكل خلية واحدة ، هي العروس الملقحة التي لا تلبث أن تبدأ بالانقسام والتكاثر ، على خليتين ، ثم أربع ، ثم ثمان ، ثم ست عشرة .. وفي مرحلة لاحقة يبدأ تخصيص كل مجموعة من الخلايا المتكاثرة ، لتشكيل عضو من أعضاء المخلوق الجديد إلى أن يكتمل نموه ، ويبلغ غاية خلقه ، ويخرج إلى الحياة مخلوقاً كاملاً سوياً .. ومما لا ريب فيه أن هذا الأسلوب الموحد في تخلق الأجنة المختلفة يوحي أنها جميعاً تخضع لمنهج واحد من السنن الشاملة .. كما يدل هذا الأمر على أن سنن الحياة لا تسود عالم الإنسان وحده ، بل تسود عالم المخلوقات الحية كلها .
دليل من علم الخلية:
.. وإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى الخلية ، فإننا نجد المخلوقات الحية كلها دون استثناء ، تتكون من وحدات أساسية تدعى كل منها ( خلية ) وهذه الوحدات متشابهة في التركيب ، سواء أكانت الخلية بشرية أو حيوانية أو نباتية .. فكل خلية تتركب من مادة صبغية وراثية تتجمع في النواة ، وتحمل صفات المخلوق ، وتنقلها بالتزاوج والتكاثر من جيل إلى جيل في النوع نفسه.
وتحيط بالنواة مادة هيولية تتم فيها النشاطات الحيوية المختلفة .. ويحيط بالمادة الهيولية هذه غلاف ، أو غشاء يحدد الخلية ، ويعطيها شكلها الذي يميزها عن غيرها من الخلايا.
وهذا الأسلوب في تكوين الخلايا يسود أنواع المخلوقات الحية كلها ، حتى المجهرية منها كالطفيليات والجراثيم .. مما يدل دلالة واضحة على أن تكوين المخلوقات الحية ينتظم وفق سنن شاملة محكمة كذلك .
دليل من علم (الأحياء):
.. ولعلنا نتبين طرفاً من التكامل في الخلق ، حين ننظر نظرة شاملة إلى عالم المخلوقات الحية ، التي تعيش فوق هذه الأرض ، إذ تظهر لنا النظرة المدققة إلى حياة النبات من جهة ، وحياة الإنسان والحيوان من جهة أخرى أن هذه المخلوقات جميعاً تتعاون في حياتها ضمن حلقة واحدة متكاملة :
فوظيفة النبات هي ( الإرجاع والتركيب ) ، إذ يأخذ التراب والهواء والماء فيركب منها الثمار ، ليقدمها يافعة للإنسان والحيوان ، لكي يبنيا منها أجسامهما .. إلى جانب ما يقوم به النبات من علم بالغ الأهمية في تنقية جو الأرض من غاز ثاني أكسيد الكربون ، الذي ينتج عن تنفس الإنسان والحيوان فينزع منه الأكسجين ويعيده إلى جو الأرض ، خلال عملية التمثيل الضوئي ، لكي يقوم الإنسان والحيوان باستخدام هذه الأكسجين من جديد .
وأما وظيفة الإنسان والحيوان فهي ( الأكسدة والتقويض ) أي هي نقيض وظيفة النبات ، إذ يأخذ الإنسان والحيوان غذاءهما من عالم النبات فيهضمانه ليبنيا منه خلاياهما وأعضاءهما ، وليستمدا منه الطاقة اللازمة للحركة والنمو والتكاثر .. ثم يطرحان ما لا يهضمانه إلى التراب والهواء ، ليبدأ دور النبات من جديد .
وبهذا تكتمل دورة الحياة ، وتتعاون هذه المخلوقات معاً ضمن حلقة متكاملة من السنن .
دلائل من علم النفس وعلم الاجتماع:
.. وندرك من خلال الأمثلة التي سبقت أن العالم المادي ( الحي وغير الحي ) محكوم بمجموعة من السنن التي توجه مساره ، وتحدد وجهة تطوره .. فماذا عن النفس البشرية والحياة الاجتماعية .. هل يخضعان كذلك لسنن مخصوصة ؟
والجواب الذي نقطع به دون تردد هو : أجل .. فإن سنن الله عز وجل لا تحكم العالم المادي وحده ، بل هي تحكم ما في هذا الوجود من خلائق ، سواء أكانت مادية كالذرة ، والكهرباء ، والحرارة ، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية ، والسلوك الاجتماعي .. وهذا ما تأكده آيات كثيرة من القرآن الكريم ، من مثل قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون )(آل عمران: 83) .. فالكل خاضع لله .. خاضع لسننه التي فطر الخلق عليها ..
وكما أن الماء يطفئ النار ..
وكما أن المعدن يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة ..
وكما أن رمي الحجر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض ..
وكما أن التقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين ..
وهذه كلها سنن مادية مشاهدة مدركة .. فكذلك السنن التي تحكم النفس البشرية والحياة الاجتماعية ، فهي سنن تقوم على مقدمات ونتائج ، وترتبط نتائجها بمقدماتها ارتباطاً وثيقاً مقدراً من الله عز وجل .
ويقدم لنا الواقع المشاهد أدلة عديدة تثبت هذه الحقيقة .. فنحن نشاهد مثلاً أن الحسد (وهو انفعال نفسي محض) يؤدي إلى نتائج مدركة تظهر بوضوح من خلال سلوك الحسود وتصرفاته ، كما تظهر فيما يعانيه الحسود من ضيق وتبرم بالحياة ، وقلق يقض مضجعه ، وينغص عليه عيشته.
ويجمع علماء النفس من خلال ما حصلوه من معلومات وخبرات عن طبيعة النفس البشرية ، بأن هذه النفس محكومة بسنن صارمة ، تقرر حالها ، من حيث الصحة والمرض ، والسعادة والشقاء ، كما يجمعون على أن الوضع النفسي للفرد يتوقف بصورة مؤكدة على عوامل عديدة ، كالثقافة والظروف البيئية والاجتماعية والسياسية .. وعوامل أخرى بات كثير منها معروفاً اليوم للباحثين في ميدان علم النفس ، بحيث أصبح هؤلاء الباحثون قادرين على علاج كثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية بناء على هذه المعرفة . ويثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة دون لبس ، ويبين بوضوح تام ، أن حال الإنسان من حيث السعادة والشقاء مثلاً مرهونة بنظرته إلى الحياة ، وبموقفه من هذه الحياة .. ففي سورة الشمس ، يخبرنا الله عز وجل بأن صلاح الإنسان مرهون بتزكيته نفسه ، وأن شقاءه بالمقابل ، مرهون بتدسية هذه النفس .. قال تعالى: (ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها )(الشمس: 7-10).
فهذه سنة نفسية تصدق على أي إنسان ، فأيما إنسان صدق العزم ، وأخلص النية ، وزكا نفسه ، فنأى بها عن المحرمات ، وعن الخبائث ، فإن الفلاح سيكون من نصيبه ، وأيما إنسان دنس نفسه بالحرام ، ورضي بالخبائث فإن الخسارة نازلة به لا محالة.
ولقد قدم لنا القرآن الكريم السنة التي تحكم سعادة الإنسان وشقاءه بصورة معادلة رياضية لا تقبل الجدل ، وذلك في قوله سبحانه: ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً )(طه:123-124) فالسعادة والشقاء - كما يقرر الحق تبارك وتعالى - رهن بالتزام شرع الله ، أو النأي عنه ورفضه ، وهذه سنة ربانية تحكم حياة البشر ، وستظل تحكمها إلى يوم القيامة.
ولو تتبعنا الآيات القرآنية ، لوجدناها تعرض لنا الدليل تلو الدليل على أن النفس البشرية خاضعة لسنن صارمة ، لا تقبل التبديل ولا التحويل.
فإذا ما انتقلنا بعد ذلك من نطاق النفس البشرية ، إلى نطاق المجتمع ، فإننا سنجده أيضاً محكوماً بسنن ربانية صارمة شأنه شأن النفس .. ولا عجب في هذا فإن المجتمع في الحقيقة ليس إلا مجموعة من الأفراد .. وأن حال المجتمع يعكس سلوك هؤلاء الأفراد أنفسهم ، ومن ثم فإن مصير المجتمع بأسره مرهون بسلوك أفراده .. نجد مصداق هذا في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11 )، وقوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )( الأنفال: 53 )، وقوله كذلك: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )(الأنفال: 25 ) ، وفي هذا دليل على أن سلوك الناس ، الذين يشكلون مجتمعاً ما ، يعد بمثابة مقدمة لنفاذ السنة المرتبطة بهذا السلوك .. وبمعنى آخر فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائياً . بل يحصل وفق سنن ربانية تحكم مساره وتضبط وجهته.
وقد حدثنا القرآن الكريم عن حياة مجتمعات مختلفة ، منها من عاش حياة رغيدة آمنة ، ومنها من ذاق لباس الخوف والجوع ، ومنها من باد وهلك بعذاب أليم ، وتأتي هذه اللمحات القرآنية لتلفت انتباهنا إلى وجود سنن ربانية تحكم حياة المجتمعات البشرية قاطبة ، وتقرر مصيرها .. وقد كان البيان القرآني واضحاً ، حين قرر أن رقي المجتمعات أو انحطاطها مرهونان بالتزام شريعة الله ، أو النأي عنها ، ففي باب الرقي وبسط النعمة ، نجد قوله تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف:96 ).
وفي باب الانحطاط يخبرنا القرآن الكريم مثلاً عما آلت إليه حال النصارى ، عندما انحرفوا عن خط التوحيد ، فكان جزاؤهم أن انتشرت بينهم نار العداوة والبغضاء: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )(المائدة: 14)، فلما انحرفوا عن خط التوحيد أشد من ذلك حقت عليهم سنة ربانية أخرى ، وكان الهلاك مصيرهم: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء )(الأنعام: 44).
* وهذه كلها سنن ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة.
وإلى جانب القرآن الكريم نجد عدداً غير قليل من الأحاديث النبوية ، التي بينت الكثير من السنن النفسية والاجتماعية .. ولنستمع مثلاً لهذا الحديث النبوي الجامع الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (.. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع ، التي لم تكن في أسلافهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم ، إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله ، إلا سلط عليهم عدو من غيرهم ، فيأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم ) فهذه كلها سنن اجتماعية لا تتخلف نتائجها عن أسبابها ، فهي كالمعادلة الرياضية ، التي ترتبط فيها النتيجة بالمقدمة ارتباطاً محكماً لا يقبل التبديل .
اعتراض:
يبدي بعض الباحثين تحفظهم تجاه شمولية السنن ، لأنهم يظنون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة ، يمكن أن تصاغ صياغة رياضية دقيقة ، بينما لا تخضع النفس البشرية ولا الحياة الاجتماعية ، لمثل هذه الصرامة ، ويظنون فوق هذا أن التغيرات النفسية والاجتماعية تتم في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب !
وقد عمق هذا الظن ما حدث من فارق كبير بين تقدم العلوم الرياضية والمادية من جهة ، وبين تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى .. فقد قطعت العلوم المادية عموماً شوطاً بعيد المدى ، وقدمت إنجازات علمية هائلة ، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال .. وأما علوم النفس والاجتماع فمازالت عند البدايات الأولى ، لأنها لم تعط الأهمية ذاتها ، ولهذا ظل معظمها عاجزاً عن تفسير سلوك الإنسان تفسيراً صحيحاً دقيقاً ، وظلت هذه العلوم جاهلة بمعظم السنن ، التي تتحكم بسلوك الفرد والمجتمع ، مما جعل هذه العلوم متخلفة بمراحل واسعة عن علوم المادة ، لكن هذا لا يعني أن النفس والمجتمع لا يخضعان للسنن كما تخضع المادة ، بل معناه أن الإنسان نفسه مازال مقصراً في كشف سنن النفس والمجتمع ..
والظاهر أن الالتباس في مسألة السنن النفسية والاجتماعية ، وعدم اعتبارها صارمة كالسنن المادية الأخرى ، يرجع إلى أن المادة يمكن أن تخضع للتجربة المباشرة في المختبر بسهولة ويسر ، بحيث يمكن استنباط النتائج النهائية منها خلال زمن قصير ، بينما يتعذر ذلك من التجارب النفسية والاجتماعية ، لأن إخضاع النفس والمجتمع للتجربة ليس بالسهولة نفسه ، كما أن التجربة النفسية والاجتماعية تتطلب فترة رصد طويلة ، وربما استغرقت أجيالاً عديدة.
هذا إلى جانب ما قد تمر به الظاهرة الاجتماعية من صعوبات أو نكبات خلال مسيرتها الطويلة ، مما يؤدي إلى انحرافها وتغيير معطياتها ، ومن ثم يلتبس على من يدرسها أمر الصرامة في السنن التي تخضع لها.
وربما كان هذا هو السبب في تركيز الآيات الكريمة على دعوة المؤمنين للسير في الأرض ، والنظر في تاريخ الأمم الغابرة لاستنباط الدروس والعبر (أو السنن) من خلاله ، على أساس أن التاريخ يمثل تجارب اجتماعية ونفسية واقعية ، عرفت بداياتها وتطوراتها ونهاياتها ، كما عرفت سائر الملابسات التاريخية التي أحاطت بها .. ومن ذلك قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران: 137) وكثير من مثل هذه الآيات التي سيرد التفصيل فيها لاحقاً بإذن الله .. ومما لا ريب فيه أن الاعتبار بقصص الأمم الغابرة يغدو بلا فائدة لو لم تكن السنن التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات سنناً ثابتة مطردة ، يمكن أن تتكرر كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها.
ملاحظة أخيرة:
وتبقى ملاحظة هامة لابد من الوقوف عندها ، ونحن في معرض الحديث عن سنن النفس والمجتمع ، وهي أن الحقيقة التي انتهينا إليها من ( أن النفس والمجتمع يخضعان لسنن صارمة لا تختلف عن تلك السنن التي تخضع لها المادة ) لا تعني أن النتائج التي انتهت إليها البحوث الاجتماعية والنفسية ، التي بين أيدينا اليوم هي نتائج صحيحة مائة بالمائة ، ولا أن القواعد الاجتماعية والنفسية التي توصل إليها بعض الباحثين صحيحة مائة بالمائة كذلك.. فما توصل إليه البشر من اكتشافات في هذا المجال أو ذاك قد يصيب أو يخطئ بمقدار ما يقترب من الحقيقة أو يبتعد عنها ، وقد حدث مثل هذا مراراً ، حتى بالنسبة للعلوم الرياضية ، التي يحسب معظمنا أنه لا يأتيها الباطل أبداً .. فكم من نظرية رياضية ظلت محل قداسة وتقدير دهوراً طويلة ، ثم نقضت من أساسها ، وظهر بطلانها .. وهكذا علم الاجتماع وعلم النفس ، وغيرهما من العلوم الإنسانية ، فهذه العلوم المختلفة تعد اكتشافات بشرية قد تصيب وقد تخطئ ، وهذا الأمر يختلف عما نريد إثباته هنا ، وهو أن النفس البشرية والمجتمع البشري كليهما يخضعان لسنن ربانية صارمة ، كما تخضع المادة ، سواء بسواء .
ويجمع الباحثون في العلوم الإنسانية ، بما فيهم الباحثون الاجتماعيون والنفسيون ، على أن علمي الاجتماع والنفس بوضعهما الحالي لا يعبران تعبيراً موثوقاً عن طبيعة السنن النفسية والاجتماعية ، أو بمعنى آخر فإن هذين العلمين ما يزالان قاصرين عن معرفة هذه السنن معرفة يقينية دقيقة .. ويمكن إرجاع أزمة هذين العلمين إلى عدة عوامل ، نذكر منها :
(1) أن الاهتمام بالدراسات النفسية والاجتماعية - على مدار التاريخ - كان أقل بكثير من الاهتمام بالدراسات المادية الأخرى ، مما جعل علم النفس وعلم الاجتماع متخلفين بمراحل عديدة عن العلوم المادية التي تطورت تطوراً مذهلاً ، وبخاصة في العصر الحديث ..
(2) أن الظواهر الاجتماعية والنفسية شديدة التعقيد ، كما قدمنا .
(3) أن العامل البشري كثيراً ما يتدخل في تفسير الظاهرة الاجتماعية أو النفسية ، فينأى بها عن الموضوعية .
(4) أن المنهج السائد اليوم في البحوث النفسية والاجتماعية يحتاج إلى إعادة نظر وتقويم ، لأن معظم الباحثين مازالوا يؤسسون معتقداتهم على أساس من التجارب التي تجري على الحيوان ، ثم يعممون هذه النتائج على عالم البشر ، وفي هذا خلط عجيب ، لأنه يفترض أن السنن الخاصة بعالم الحيوان هي ذات السنن السائدة في عالم الإنسان ن بينما هما عالمان مختلفان اختلافاً جذرياً ، فهما وإن اتفقا في بعض الصفات الحيوية من حيث الشكل ، أو التركيب ، أو الوظائف ، إلا أنهما يختلفان من حيث التكوين النفسي والعقلي .. وهذا ما يجعل تعميم التجارب الحيوانية على الإنسان خطأ فاحشاً ، يؤدي بالضرورة إلى أحكام بعيدة غاية البعد عن الحقيقة .
ولا نريد أن نستطرد أكثر في تفنيد مشكلات علمي النفس والاجتماع ، إلا أننا نريد التأكيد هنا على نقطة أساسية ، وهي أننا إذا ما توصلنا يوماً ما إلى معرفة سنة اجتماعية أو نفسية معرفة يقينية ، فإننا سنجد أنها لا تختلف عن أية سنة مادية أخرى من حيث شمولها وصرامتها ، وسوف نجد كذلك أننا نستطيع صياغة هذه السنة الاجتماعية ، أو النفسية ، صياغة رياضية ، كما نصوغ أية معادلة رياضية صحيحة .
.. وهكذا يبدو لنا جلياً أن كل ما في هذا الكون من جماد وحيوان ونبات يخضع لسنن ربانية محكمة .. وأنه لا شيء في هذا الوجود خارج عن سنة الله .. بل الكل خاضع له سبحانه .. وصدق الله العظيم الذي يبين هذه الحقيقة الباهرة في محكم تنزيله فيقول: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال )(الرعد: 15).
خصوصية السنن:
هذا ، ولكل سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه خصوصيتها المتفردة ، ونعني بها أن السنة التي يتم بها أمر من الأمور هي واحدة لا تقبل التعدد ، فكل سبب يولد النتيجة المقدرة له وحده ، ولا تنفصل النتائج عن أسبابها ، وكل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق كذلك في الأسباب والنتائج ، أي يلزم أن يكون لها سنة مخصوصة تتحكم فيها ، ومثال هذا ما ذكرناه من خضوع العناصر الكيميائية المختلفة للسنة ، أو القانون ، الذي اكتشفه العالم (دالتن) فهذا القانون هو الذي يحكم تفاعل العناصر الكيميائية بعضها مع بعض ، إذ لا يتحد عنصر مع عنصر آخر إلاّ وفق نسبة محددة ، وما لم يتوافر العنصران بالنسبة المطلوبة فإنهما لا يتحدان معاً ، ولا نحصل منهما على المركب الذي نريد .. وكذلك هو كل أمر في هذا الوجود ، فكل أمر خاضع لسنة محددة لا يتم إلا بها ، ولا يمكن أن يتم بغيرها من السنن .. فتركيب الماء بمواصفاته المعروفة ، والذي رأينا في مثال سابق أنه يتم من اتحاد الهيدروجين والأكسجين ، لا يمكن أبداً أن يتم من اتحاد الأكسجين بالهيليوم مثلاً ، مع العلم بأن الهيليوم هو أقرب العناصر الكيميائية إلى الهيدروجين من حيث البنية الذرية .
ويمكن أن نسوق أمثلة عديدة على أن سنة مخصوصة ، لا تتم إلا من خلال شروط مخصوصة وعلى أن كل أمر في هذا الوجود يخضع لسنة مخصوصة كذلك .. وهذه الحقيقة يجب أن تظل ماثلة في أذهاننا كلما أردنا أن نحقق هدفاً من الأهداف ، أو القيام بعمل من الأعمال فإن الخطوة الأولى في سبيل ذلك ، هي أن نتبين السنة الخاصة بهذا العمل أو ذاك الهدف ، لأن القيام بأي عمل دون معرفة بالسنة التي يخضع لها ، يعد ضرباً من العبث ، وإهداراً للطاقة .
ويمكن أن نشبه السنة بالخط المستقيم .. فمن المعروف أن الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين ثابتتين ، فلو كان لدينا مثلاً النقطتان أ ، ب فإننا لا يمكن أن نصل بينهما إلا بخط مستقيم واحد هو أ ب :
أ
x _________________ x ب
وأما بقية الخطوط التي تمر بها هاتين النقطتين ، فإن كانت مستقيمة انطبقت على الخط الأول ، وكانت مستقيمة مثله ، أو كانت هي هو ، لأنها جميعاً تحقق صفة الاستقامة ، وأما إن كانت الخطوط متعرجة فإنها تكون قد خرجت عن الاستقامة ، ولم تعد تحقق الصفة المطلوبة .. وهكذا هي سنن الله في الخلق ، فكل سنة تتعلق بسبب ونتيجة ، كما يتعلق الخط المستقيم بالنقطتين ( أ ، ب ) وكما أنه لا يوجد سوى خط مستقيم واحد يصل ما بين هاتين النقطتين ، فكذلك لا توجد سوى سنة واحدة تتعلق بسبب مخصوص وبنتيجة مخصوصة . وهذه الحقيقة تقدم لنا منطلقاً هاماً جداً للنظر إلى مشكلاتنا ، فمادام أن لكل أمر سنة مخصوصة لا يتم إلا من خلالها ، فإن هذا يعني ضرورة الاجتهاد في إصابة السنة ، التي تحكم كل قضية من القضايا ، التي تعترضنا ، لأن إصابة السنة هذه تحل لنا القضية من أساسها ، وتغلق من ثم باب الاختلاف والنزاع .. وهذا ما سوف نفصل فيه - بإذن الله - عند الحديث عن علاقة السنن بالاجتهاد في الشريعة الإسلامية .
2- الثبات :
وثبات السنة يعني أنها لا تتبدل ولا تتحول ، مصداقا لقوله تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً )(فاطر 43) .
* والتبديل ( لغة ) : التغيير ، قال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية )(النحل: 151) ، وقال: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة )(الأعراف 95) .
* وأما التحويل ( لغة ) فهو التحول من حال إلى حال ، يقال : تحولت القوس ، أي صارت معوجة بعد استقامة ، ويقال ، حوله : أي نقله من موضع إلى آخر .
فهذان الأمران ( التبديل والتحويل ) لا يطرأن أبداً على ما بث الله من سنن في هذا الوجود، فإن سنن الله باقية على حالها ، منذ خلق الله السموات والأرض ، وهي مستمرة على هذه الحال من الثبات إلى أن يشاء الله .. وفي هذا ما فيه من دلائل بالغة ، توحي برحمة الله عز وجل بالعباد .. فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها ، ولما كان استخلاف البشر في الأرض ممكناً ، إذ كيف يمكن أن يستخلفوا في عالم هلامي لا يثبت على حال ؟ ، وكيف يمكن أن يسخروا مثل هذا العالم الذي لا يحكمه قانون ، ولا تضبطه سنة ؟
ومن جهة ثانية .. لو لم تكن سنة الله ثابتة على هذه الحال ، لما كان في هذا الوجود توازن ولا استقرار ، ولكانت الفوضى حينئذ هي سمة الخلق كله .. وهذا ما يتنافى مع الواقع المشهود ، الذي تدلنا كل صغيرة وكبيرة فيه على آيات التوازن والاستقرار، كما قال تعالى في وصفه: (وكل أمر مستقر )(القمر: 3).
ولكن .. ما الذي نعنيه بثبات السنن؟
إننا حين نصف السنن بالثبات ، فإننا نعني بذلك ارتباط الأسباب بالمسببات ، أو ارتباط العلة بالمعلول ، ارتباطاً ضرورياً لا ينفصم ، إلا أن يشاء الله .. فقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه ، أن يكون له في كل حادثة سبب يؤدي إليها ، وأن يكون وراء كل معلول علة يرتبط بها .. وهذا ما يعطي السنن صفة الثبات ..
ومما لا ريب فيه أن الكون لو لم يكن خاضعاً لسنن ثابتة ، لا تتبدل ، ولا تتحول ، ولو كانت الأحداث فيه تجري مصادفة بلا ضابط يضبطها كما يدعي الملحدون.. لما كان ثمة ضرورة إذن لوجود تماثل بين ذرات العنصر الكيميائي الواحد مثلاً ، ولما كان من الضروري أن تشترك جميع ذرات هذا العنصر بصفات معينة، تميزها عن غيرها من ذرات العناصر الأخرى، ولكانت ذرات العناصر المختلفة في تبدل مستمر، وعندئذ يكون من الجائز أن تحدث الظاهرة في بعض ذرات العنصر الكيميائي ، ولا تحدث في غيرها من ذرات العنصر نفسه. لا لشيء إلا للمصادفة! وهذا ما لا يقبله منطق العقل ولا تؤيده الوقائع الملموسة والمشاهدة ، والتي تثبت كلها التقدير والتدبير في أمر الخلق كله ، ونفي العبث عنه ، وتوحي بالثبات في السنن ، التي تحكم كل شيء فيه .. وهنا .. قد يتبادر إلى الذهن سؤال : هل ثبات السنن ماض إلى مالا نهاية؟ أم أن له أجلاً معلوماً؟
ونقول: إن الثبات في سنن الله ليس ثباتاً أبدياً لا نهاية له ، بل هو ثبات موقوت، والظاهر من نصوص قرآنية عديدة أن نهايته تتزامن مع انتهاء مهمة الإنسان فوق هذه الأرض ، فيوم تنتهي هذه المهمة ، ينتهي أجل السنن ، التي تسود اليوم عالمنا ، ليبدأ عمل سنن أخرى قدرها الله للحياة الآخرة .. نجد مصداق هذا في قوله تعالى: ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )(ابراهيم: 47-48) فإن يوم القيامة - كما يخبرنا القرآن الكريم - يمثل نقطة تحول حاسمة ، ليس في حياتنا نحن البشر فحسب ، بل في حياة الكون كله .
اعتراض:
وقد كنت في أحد الأيام أعرض فكرة ثبات السنن على واحد من أصحابي المتخصصين بالدراسات الجيولوجية فأبدى اعتراضه على صفة الثبات هذه ، وقال : (.. لا أحسب أن السنن التي تتحكم بالكون ثابتة على هذه الصورة ، وحين نتتبع مثلاً تاريخ المخلوقات ، التي تتابع ظهورها على وجه الأرض ، فإننا نلاحظ حدوث تبدل في الخلق ، مما يدل دون ريب على حدوث تبدل في السنن التي تحكم هذا الخلق .. فقد أثبتت المشاهدات والدراسات الجيولوجية الكثيرة ، أنها سادت فوق الأرض - خلال حقبة تاريخية بعيدة - حيوانات بالغة الضخامة ، كالديناصورات وأفيال الماموث وغيرها من الحيوانات الماردة ، كما انتشرت في تلك الحقبة أنواع عملاقة من الشجر والنبات .. ثم انقرضت تلك المخلوقات ، وظهرت من بعدها مخلوقات أخرى تختلف عنها اختلافاً تاماً ، ومن هذه المخلوقات الجديدة .. الإنسان .. أفلا يدل هذا التبدل في الخلق على تبدل في سنن الحياة ؟).
وقبل أن أجيب صاحبي ، أردف يقول : (ومن جهة ثانية ، فقد شهدنا في العصر الحاضر اختفاء بعض الأمراض ، التي كانت سائدة في عالمنا ، كما شهدنا ظهور أمراض أخرى جديدة ، فقد اختفى داء الجدري مثلاً من على وجه الأرض منذ سنوات ، ولم تسجل منه أية حالة منذ شهر تشرين الأول ( أكتوبر ) 1977م كما شهد هذا القرن ظهور داء جديد تماماً ، هو داء نقصان المناعة المكتسب ، الذي اشتهر باسم (الإيدز) والذي سجلت الحالة الأولى منه عام 1981م.. أفلا يدل هذا على تبديل في السنن التي تتحكم بحياة المخلوقات ؟
فقلت لصاحبي : إن هذه الأمثلة التي أتيت بها ليس دليلاً على التبدل في السنن ، بل إنني لأرى فيها دليلاً آخر يؤيد ( الثبات في السنن ) ولنأخذ المثال الأول الذي ذكرته عن اندثار المخلوقات العملاقة التي يقال : إنها سادت في الأرض قبل خلق الإنسان .. فأنت تعرف يا صديقي دون شك ما انتهى إليه العلماء حول اندثار تلك المخلوقات ، إذ يرجحون أنها اندثرت لسبب عادي ، أو قل سنة معروفة من سنن الحياة ، وهي أن لكل جسم حي درجة حرارة معينة لا يستطيع العيش خارج نطاقها ، وقد أظهرت الدراسات الجيولوجية أنه داهم تلك المخلوقات عصر جليدي بالغ القسوة ، لم تستطع تلك المخلوقات أن تصمد أمامه ، فقضت نحبها واندثرت عن بكرة أبيها .. ثم شاءت إرادة الله عز وجل ، أن ينحسر العصر الجليدي ، وأن يسود الأرض عصر جديد يناسب حياة البشر ، ومخلوقات أخرى قدر الله خلقها في ذلك الزمن ..
ولم يصطبر صاحبي حتى أكمل حديثي ، بل اعترض قائلاً : ( وهذه العصور التي تتعاقب بين وقت وآخر على سطح الأرض أليست ناشئة عن تغيير أو تبديل في السنن ؟ ) .
فقلت : لا .. وإنما تتعاقب هذه العصور كما تتعاقب فصول الربيع والخريف والصيف والشتاء ، بنظام ثابت ، وتوقيت محدد ، وفق سنن ربانية محكمة .
ثم تابعت أقول : وأما مثالك الآخر ، الذي اخترته من عالم الطب ، فهو كذلك لا يؤيد اعتراضك على ثبات السنن ، فالجدري مثلاً الذي اختفى منذ سنوات قريبة ، لم يختف نتيجة تغيير في سنة المرض ، بل اختفى لأسباب معروفة ، أهمها تعميم استخدام اللقاح الواقي من الجدري على نطاق واسع في بلدان العالم قاطبة .
قال صاحبي يعترض من جديد : ولكن اللقاح لم يعد مستعملاً الآن ، ومع هذا لم تعد تسجل أية حالات جديدة من المرض ؟
قلت : أجل ، هذا صحيح فعلاً ، فقد أوقف العلماء استخدام اللقاح لأنهم أصبحوا واثقين من أن الجنس البشري قد اكتسب نوعاً من المناعة المتأصلة ، التي أصبحت تشكل إخلالاً في سنة الإصابة بالجدري .. إذ تتطلب هذه السنة الخاصة بالعدوى بالأمراض المعدية ، وجود عاملين رئيسيين ، هما :
1 - العامل الممرض ( وهو فيروس الجدري في المثال المذكور ) .
2 - الجسم القابل للعدوى والمرض .
ويعتقد أن لقاح الجدري ، جعل أجسام البشر غير قابلة للعدوى والمرض بجرثومة الجدري ، أي حدث إخلال بالعامل الثاني ، الذي يلزم لحدوث هذا المرض .. وهذا يعني أن سنة الإصابة بالمرض لم تتعطل أو تتبدل ، بل حدثت هنالك موانع حالت دون فعل هذه السنة ، وهذا - طبعاً - بالنسبة للجدري فقط ، وأما بقية الأمراض السارية ، فلم يحدث فيها مثل هذا ، ومازالت هذه الأمراض تصيب أعداد كبيرة من البشر كل يوم .. مما يعني أن داء الجدري قد يعود إلى الظهور مستقبلاً ، إذا ما زالت الموانع التي تحول دون ظهوره اليوم.
وكما هو الحال بالنسبة لداء الجدري ، فكذلك الحال بالنسبة لداء ( الإيدز ) فهو يخضع أيضاً لسنة الأمراض السارية التي أشرنا إليها .. وقد ظهر هذا الداء عندما تهيأت الظروف لظهوره .
وقاطعني صاحبي فقال : وما قولك في الحديث الشريف الذي جاء فيه (.. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم )؟
قلت : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى .. ولكن هذا الحديث يا صاحبي يمثل برهاناً على ثبات السنن ، فإن ظهور أوجاع جديدة بين الناس ، لا يعني أنها تتطلب خلق سنن جديدة من أجلها ، وإنما يكفي أن تتوفر الشروط اللازمة لحصولها ، وهي كما قلنا آنفاً :
وجود العامل الممرض ، أي فيروس الإيدز بالنسبة للحالة التي تعرضها ، وهذا الفيروس ربما يكون قد خلق قبل هذا الزمان بآماد بعيدة ، أو أنه خلق حديثاً بمشيئة الله ، نتيجة تفاعل بعض السنن الكونية ، فيما بينها ، بسبب ظروف طارئة جديدة .
والعامل الآخر استعداد الجسم البشري للإصابة بهذا المرض ، وهذا الشرط يمكن أن يتوفر في أي زمان ، إما لأن جسم الإنسان يمتلك أصلاً مناعة ضد المرض الجديد ، وإما لضعف يطرأ على الجسم فيجعله قابلاً للعدوى بهذا المرض .. وقد اثبتت الدراسات الحديثة أن تعاطي المخدرات ، وممارسة الشذوذ الجنسي ، يضعفان مناعة الجسم، ومما يؤيد هذه الحقيقة انتشار داء الإيدز خاصة في البلاد التي فشت فيها مثل هذه الفواحش .. وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فهو لا يحتم حصول تغيير أو تبديل في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه .
موقف الإنسان تجاه ثبات السنة:
.. وثبات السنة على صورة واحدة لا تتبدل ، يشكل نوعاً من العقبة أمامنا بقدر ما يمنحنا قدرة على التعامل معها والتحكم بمسارها ، إذ كيف يمكننا أن نوجه السنة أو نسخرها لخدمتنا ، ونحن لا نملك أن نغير شيئاً من طبيعتها ؟ هنا يمكن أن نشبه السنة بالجدار المتين ، الذي لا يمكن هدمه ، ولا اختراقه ، ولا زحزحته عن مكانه ، فمثل هذا الجدار يمثل - دون ريب - نوعاً من التحدي أمامنا .. غير أننا يمكن أن نواجه هذه العقبة دون تغيير شيء من صفات الجدار .. فيمكننا مثلاً أن نستخدمه للاستناد وإقامة جسر فوقه ، أو نستخدمه كجزء من بناء غرفة ، أو نستخدمه لدرء الريح والشمس .. وبهذا نستطيع التحكم بالجدار من غير تبديل في وضعه أو اتجاهه أو صفاته .. وكذلك هي سنن الله في الخلق ، والله عز وجل وهبنا القدرة على تسخيرها في شؤون حياتنا بهدايته لنا إلى كشف صفاتها ، وإعطائنا القدرة على التصرف بها ، من خلال هذه الصفات ، وليس من خلال تغييرها .
ويمكن أن نقدم مثالاً آخر يزيد الفكرة وضوحاً .. فقد خلق الله عز وجل العناصر الكيميائية المختلفة ، وجعل لكل منها صفات كيميائية وفيزيائية ثابتة لا تتغير ، ومع هذا فقد استطاع الإنسان بفضل الله أن يحصل من هذه العناصر على صفات جديدة ، من خلال التفاعلات التي تتم بين بعض العناصر وبعضها الآخر .
وتعد سنة الله في الخلق بمثابة عناصر كيميائية ، ذات صفات ثابتة لا تتغير ، وكما نحصل من تفاعل العناصر الكيميائية على مركبات جديدة ، وصفات جديدة ، فكذلك التفاعل بين السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فإن هذا التفاعل يمدنا بقدرات تسخيرية جديدة ، لم تكن متاحة لنا من قبل .. ونضرب لهذا مثلاً من عالم الفضاء والأقمار الصناعية .. فمن المعلوم أن هناك سنتين مختلفتين تتحكمان في دوران الأقمار الصناعية حول الأرض:
(1) سنة الجاذبية الأرضية.
(2) وسنة القوة الطاردة المركزية.
فالقمر الصناعي إنما يستقر في مداره الثابت حول الأرض نتيجة تفاعل هاتين السنتين ، فيما بينهما، فالجاذبية الأرضية تشد القمر الصناعي نحو مركز الأرض بقوة معينة ، بينما تدفعه القوة الطاردة بعيداً عن مركز الأرض بقوة مساوية للأولى بالمقدار ، ومعاكسة لها بالاتجاه ، فتكون المحصلة استقرار القمر في مدار ثابت حول الأرض .
وعلى هذه الصورة من الفهم يجب أن يكون تعاملنا مع السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فليس لنا أن نفكر في تعديل صفاتها ، أو تبديلها ، وإنما علينا أن نعرف صفاتها ، وأن نتصرف بها وفق هذه الصفات الثابتة ، التي قدرها الله عز وجل كما شاء .
3- الاطراد:
والاطراد في ( اللغة ) : التتابع والتسلسل.
ونعني باطراد السنة تتابع حصولها ، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .. ونضرب مثلاً لهذا تركيب الماء ، فالماء يتركب من اندماج غازين مختلفين هما الأكسجين والهيدروجين وفق المعادلة الكيميائية التالية:
H2 + O2 = 2H2O
وقد أصبح في مقدورنا اليوم أن نعيد تشكيل الماء من هذين الغازين بطرق اصطناعية ، بعد أن عرفنا الشروط التي تتحكم باندماجهما ، أهم هذه الشروط أن ندمج العنصرين بمقدارين متناسبين ، وفق قاعدة النسب التي اكتشفها العالم الكيميائي ( دالتن ) والتي تقول : ( إن الاتحاد الكيميائي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معينة من هذه العناصر ، في ظروف وشروط خاصة بكل منها ) فهذه القاعدة تعد سنة مطردة تخضع لها جميع التفاعلات الكيميائية التي تتم بين مختلف العناصر .. وكلما وفرنا شروط هذه السنة حصلنا على نتائج التفاعل المطلوب ، حتى ولو أعدنا التفاعل مئات المرات.
وهذا ما نعنيه باطراد السنة ، فجميع السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق قابلة للتكرار والإعادة - بإذن الله - كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع ، التي تحول دون تحقيقها .. فالمطر يهطل بإذن الله كلما تبلدت الغيوم في السماء وتهيأت الظروف الجوية المواتية ، والحجر يسقط إلى الأرض كلما ألقينا به في الفضاء ، واليد تحترق كلما لامست النار ، والمرض يحصل كلما صادفت الجراثيم جسماً قابلاً للعدوى والمرض .. وهكذا .
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى صفة الاطراد في سنن الله ، منها قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )(محمد: 1) (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط )(آل عمران:120) (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )(النحل: 97) ، ( من يعمل سواء يجز به )( النساء: 123)، ( ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف من بينه ، ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله ، وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار )(النور - 43).
فهذه كلها سنن ربانية مطردة ، لا تتخلف بإذن الله إلى يوم القيامة ، وأمثالها كثير في القرآن الكريم .. وإن من يدقق النظر في أحكام الشرع المختلفة ، يجد أنها تعبر عن نوع من السنن المطردة ، التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها ، فإن ترك شيء مما أمر به الشارع الحكيم يترتب عليه عاقبة وخيمة دوماً ، في الدنيا قبل الآخرة ، وإن الإتيان بشيء قد نهى الله عنه يترتب عليه كذلك عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة ، وفي هذا غاية العدل والحكمة والتدبير .
وقد ذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله بهذا الصدد ما يلي : ( .. لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة ، في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ، ليدلك بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ، ويوجب تخلف أثرها عنها).
ومن هنا يتبين أن سسن الله في الخلق تقوم على الاطراد ، بحيث تمضي السنة إلى غايتها المقدرة بإذن الله، كلما توافرت شروطها ، ولم يكن ثمة ما يحول دون تحقيقها .. ويمكن تشبيه السنة من هذه الوجهة بطلقات البندقية فهي تنطلق من الفوهة كلما ضغطنا على الزناد ، وكذلك هي سنن الله ، فهي تمضي إلى غايتها كلما وفرنا شروطها.
وكما أننا نفقد السيطرة على الطلقة بمجرد خروجها من الفوهة ، فكذلك نفقد السيطرة على نتائج السنة فور أن نوفر لها شروطها ، لأنها ستمضي بعد ذلك لتحقيق أهدافها شئنا ذلك أم أبينا .
وقد يعترض بعضهم على صفة الاطراد في السنن ، بحجة أن الصفات لا ترتبط بالموجودات ارتباطاً لازماً ، بل ترتبط بها ارتباط ( عادة ) إذ يعتقد هؤلاء مثلاً أنه ليس من طبيعة النار الإحراق ، ولكن الله يجعل فيها هذه الصفة لحظة ملامستها ! وكذلك السكين ليس من طبيعتها القطع ، وإنما يخلق الله فيها هذه الصفة حين إمرارها على الجلد مثلاً !
ويرى هؤلاء أن ارتباط الصفات بالموجودات إنما تتشكل في أذهاننا نتيجة العادة ، فقد اعتدنا أن نرى النار تحرق ، والسكين تقطع ، فارتبطت في أذهاننا .. هذه الصفات بهذه الموجودات ، ارتباط عادة .
والحقيقة أن هذه النظرة إلى طبيعة الأشياء قد نشأت نتيجة ملابسات تاريخية باتت معروفة في تاريخنا الإسلامي ، فقد بدأ الحديث عن الجواهر والأعراض ، وارتباط الأعراض بالجواهر منذ العصور الإسلامية الأولى ولا سيما في القرن الهجري الثاني ، حين بدأ الجدال بين أهل الفلسفة وأهل العقيدة ،ولعل أكثر من تكلموا في هذه القضية الأشاعرة والمعتزلة الذين حاولوا نفي فكرة ( الطبع ) ، التي كان يقول بها بعض الفلاسفة القدماء ، فقد اعتقد أولئك المتكلمون أن التسليم بوجود الصفات في طبع الأشياء يعطل الإرادة الإلهية ، ويجعل هذه الأشياء فاعلة بذاتها وليس بقدرة الله ، وبما أنه لا يجري شيء في هذا الوجود إلا بمشيئة الله ، فقد أصروا على أن الصفات ليست مرتبطة بالموجودات ارتباطاً لازماً ، وأن الله يجعل فيها تلك الصفات ساعة يشاء ، ليدللوا من ذلك على هيمنة المشيئة الإلهية على العالم ، في كل حين !
ولا ريب في أن هذه النظرة إلى العالم تضفي عليه صورة سحرية غريبة ، لأنها تجعل من الجائز للنار مثلاً أن تحرق ، أو لا تحرق ، بنفس النسبة ، وفي جميع الأحوال ، وكأن الأمر عبث لا يضبطه ضابط !! وهذا ما يؤيده الواقع المحسوس ، الذي يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك صفة الاطراد في سنن الله التي تحكم الوجود .
وقد أخطأ أولئك المتكلمون ، حين ظنوا بأن الاطراد في السنن ينفي المشيئة الإلهية أو يعطلها ، وقد سبق أن بينا من قبل ، بأن السنن التي تحكم هذا الوجود ، ما هي إلا قدر من قدر الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي قدره وأراد لها أن تعمل على هذه الصورة من الاطراد ، لكي يستقر أمر الخلق ، ويستطيع الإنسان تسخير ما في الكون في شؤون حياته .
وملازمة الصفات للموجودات لا تعني تعطيل المشيئة الإلهية ، لأن هذه الصفات ما كان لها أن تكون - أصلاً - لولا مشيئة الله سبحانه ، أضف إلى ذلك أن الله عز وجل ، الذي جعل في النار مثلاً صفة الإحراق قادر على أن يسلبها هذه الصفة متى شاء ، ودليل ذلك أنه سبحانه قال للنار: (كوني برداً وسلاماً على إبراهيم )(الأنبياء: 69) ، وهذا يعني أن صفة الإحراق كانت ملازمة للنار ، قبل إلقاء إبراهيم عليه السلام فيها ، وأن الله سلبها هذه الصفة في هذا الظرف الخاص ، على وجه المعجزة لنبيه عليه السلام ، على أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن سلب الإرادة الإلهية للصفات ، أو تعطيل سنة من السنن ليس أمراً اعتباطياً متروكاً للمصادفة أو الاحتمال ، بل شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون ذلك محكوماً بظروف مخصوصة معلومة ، كما هو الحال في المعجزات مثلاً ، مما يؤكد أن صفة الاطراد في السنن هي الأصل ، وما عداها هو الاستثناء ، وهذا ما سوف يفصل الحديث فيه بإذن الله عندما نتناول خوارق السنن.
ونخلص من هذا العرض إلى أن السنن التي تحكم الوجود ، تعمل فيه بنوع من الاطراد الذاتي (الأوتوماتيكي) فالنار من طبيعتها أن تحرق ، والكهرباء من طبيعتها أن تصعق ، والسم من طبيعته أن يقتل ، وعلى هذا الأساس يجب أن نتعامل مع العالم من حولنا .. مع التذكير بأن هذا الاطراد خاضع في الوقت ذاته لمشيئة الله كما قال تعالى: ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ً)(الفرقان: 45) ، فإن مد الظل كناية عن اطراد حركة الشمس والأرض ،ولو شاء الله لعطل هذا الاطراد ، وجعل الشمس والأرض ساكنتين ، وفي هذا دليل على الهيمنة الإلهية المطلقة الدائمة .. فالله عز وجل ، لم يخلق الكون ويتركه وشأنه ، بل هو قائم على أمر خلقه في كل حين ، يسطر على كل ذرة من ذرات الكون ، وقادر أن يفعل بخلقه ما يشاء (إن الله يحكم ما يريد )(المائدة: 1) ، (إن ربك فعال لما يريد )(هود: 107) .
وقد أصبحنا اليوم أقرب إلى فهم هذا النظام الرباني المطرد ، بعد أن أتاحت لنا العلوم الحديثة ، ما يعرف بالنظم ذاتية التسيير ( الأوتوماتيكية ) إذ نستطيع مثلاً أن نشغل جهاز التلفزيون بواسطة جهاز التحكم عن بعد ( ريموت كنترول ) فيظل التليفزيون يعمل من تلقاء ذاته دونما حاجة لتدخلنا المستمر من أجل حثه على العمل ، وهذا لا يعني أننا فقدنا السيطرة على عمل التليفزيون ، فنحن قادرون متى شئنا أن نوقفه عن العمل ، أو نوجهه إلى محطة جديدة ..
فإذا كنا قد سلمنا بأن الإنسان - صاحب القدرة المحدودة المقيدة - استطاع إنشاء نظم ذاتية الحركة ، ونخضع في الوقت نفسه للسيطرة ، فكيف لا نسلم بأن الله عز وجل خلق هذا الكون وفق نوع من الاطراد الذاتي الخاضع للسيطرة الربانية؟!